كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما الظاهر: فلا يمكن عاقلًا أن يكابر فيه، بل هو ظاهر ظهورًا قريبا من القطع بل يقطع به في حق أكثر الناس.
وأما الأصل: فهو أيضًا من جانب الزوج. فإنهما قد اتفقا على القيام بواجب حقها، وهى تضيف ذلك إلى نفسها، أو إلى أجنبى، وهو يدعى أنه هو الذي قام بهذا الواجب، فقد اتفقا على وصول النفقة والكسوة إليها، وهى تقول: كان ذلك بطريق البدل والنيابة عنك. وهو يقول: لم يكن بطريق النيابة، بل بطريق الأصالة.
وهذا بخلاف ما إذا لم يعلم وصول الحق إلى مستحقه كالديون والأعيان المضمونة، فإن قبول قول المنكر متوجه ومعه الأصل.
ونظيره: أن يعترف بقضاء الدين ووصوله إليه، ثم ينكر أن يكون وصل إليه من جهة من عليه الدين. فيقول: وصل إلى الدين الذي لى، لكن ليس من جهتك، بل غيرك أداه عنك. فهل يقبل قوله هاهنا أحد؟ ويقال: الأصل بقاء الدين في ذمته؟.
وهذا نظير مسألة الإنفاق سواء بسواء، فإنها مقرة بوصول النفقة إليها، ولو أنكرتها لكذبها الحس، ومدعية أن وصول ذلك إلى لم يكن من جهتك، فدعواها تخالف الأصل والظاهر جميعًا. ولهذا لا يقبلها مالك، وفقهاء أهل المدينة، وقولهم هو الصواب والحق الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه.
وأى قبيح أعظم من دعوى امرأة على الزوج ترك النفقة والكسوة ستين سنة أو أكثر وهى لا تدخل ولا تخرج، ولا يمكنها أن تعيش عيش الملائكة، فيطالب الزوج بنفقة جميع المدة التي ادعت ترك الإنفاق فيها، وقد تستغرق جميع ماله وداره وثيابه ودوابه. فيؤخذ ذلك كله منه، ويحبس على الباقى، ويجعل دينا مستقرًا في ذمته، تطالبه به متى شاءت. وهى تعلم كذب دعواها، ووليها يعلم ذلك، وجيرانها والله وملائكته، والذى يساعدها ويخاصم عنها.
ولما علم فقهاء العراق، كأبى حنيفة وأصحابه، ما في ذلك من الشر والفساد، والضرر الذي لا تأتى به شريعة. أسقطوا النفقة والكسوة عن الزوج بمضى الزمان. فلم يسمعوا دعوى المرأة بذلك. كما يقوله منازعوهم في نفقة القريب، فنفسوا الخناق عن الأزواج بهذا القول، وأشموهم رائحة الحياة، ونفسوا عنهم بعض الكرب.
ولقد أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعد أن أرسله الله تعالى إلى الناس ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشرًا بالمدينة، فما ألزم زوجًا قط بنفقة وكسوة ماضية، ولا ادعتها عنده امرأة. وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، وكذلك عصر الصحابة جميعهم، وعصر التابعين، ولا حبس على عهده وعهد أصحابه وتابعيهم رجل واحد على ذلك. ولا على صداق امرأته، مع صيانة نسائهم، ولزومهن بيوتهن، وعدم تبرجهن وتزينهن وخروجهن في الأسواق والطرقات. والأزواج في الحبوس، وهن مسيبات يخرجن ويذهبن حيث أردن. فوالله لو رأى هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لشق عليه غاية المشقة ولعظم عليه وعز عليه، ولكان إلى دفعه وإنكاره أسرع منه إلى غيره. وبالجملة فالدعوى، إذا كانت مما تردها العادة والعرف والظاهر لم يجز سماعها.
ومن هاهنا قال أصحاب مالك: إذا كان رجل حائزًا لدار، متصرفا فيها مدة السنين الطويلة، بالبناء والهدم، والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه، ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقًا ولا مانع يمنعه من مطالبته: من خوف سلطان، أو نحو ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، ولا بينه وبين المتصرف في الدار قرابة، ولا شركة في ميراث، وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات وذوو الصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريًّا عن ذلك كله، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويزعم أنها له، ويريد أن يقيم بذلك بينة. فدعواه غير مسموعة أصلا، فضلا عن بينة، وتقر الدار بيد حائزها.
قالوا: لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة، غير مسموعة قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199].
وأوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف في الدعاوى وغيرها.
قلت: ومما يدل على ذلك: أن الظن المستفاد من هذا الظاهر أقوى بكثير من الظن المستفاد من شاهدين، أو شاهد ويمين، أو مجرد النكول، أو الرد.
وأيضًا، فإن البينة على المدعى، والبينة هي كل ما يبين الحق، والعرف والعادة والظاهر القوى الذي إن لم يقطع به فهو أقرب إلى القطع، يدل على صدق الزوج، وكذب المرأة في إمساكها عن كسوتها والإنفاق عليها مدة سنين متطاولة، ولا يدخل عليها أحد، ولا هي ممن تخرج تشترى لها ما تأكل وتلبس.
فالشريعة جاءت بما يعرف لا بما ينكر، وقد أخبر الله سبحانه أن للزوجة مثل الذي عليها بالمعروف، وليس من المعروف إلزام الزوج بنفقة ستين سنة وكسوتها، واجتياح ماله كله، وسلبه نعمة الله عليه، وجعله مسكينا ذا متربة، وجعله أسيرًا لها، ينافى ما ادعت به، بل هذا من أنكر المنكر، ومما يراه المسلمون، بل وغير المسلمين، قبيحًا.
وأيضًا: فالرجل له ولاية الإنفاق على زوجته، كما له ولاية حبسها ومنعها من الخروج من بيته، فالشارع جعل إليه ذلك، وأمره أن يقوم على المرأة ولا يؤتها ماله بل يرزقها ويكسوها فيه، وجعلها الله سبحانه في ذلك بمنزلة الصغير والمجنون مع وليه، كما قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ التي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5].
قال ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك وبنيك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم. فالسفهاء هم النساء والصبيان وقد جعل الله سبحانه الأزواج قوامين عليهم، كما جعل ولى الطفل قوامًا عليه والقوام على غيره أمين عليه. ومن قبل قول الزوجة أو الطفل بعد البلوغ في عدم إيصال النفقة إليهما، فقد جعلهما قوامين على الأزواج والأولياء، ولو لم يقبل قول الزوج لم يكن قوامًا على المرأة. فإن المرأة إذا كانت غريما مقبول القول دون الزوج، كانت هي القوامة.
وبالجملة فللرجل على امرأته ولاية، حتى في مالها، فإن له أن يمنعها من التبرع به لأنه إنما بذل لها المهر لمالها ونفسها، فليس لها أن تتصرف في ذلك بما يمنع الزوج من كمال استمتاعه، وقد سوى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بين نفقة الزوجات، ونفقة المماليك، وجعل المرأة عانية عند الزوج، والعانى: هو الأسير، وهو نوع من الرق، فقال في المرأة: «تُطْعِمُهَا مِمَّا تَأْكُلُ، وَتَكْسُوهَا مِمَّا تَلبَسُ».
وكذلك قال في الرقيق سواء، فهو أمير على نفقة امرأته ورقيقه، وأولاده، بحكم قيامه عليهم، ولم يوجب الله سبحانه على الأزواج تمليك النساء طعامًا وإداما، ولا دراهم أصلا، وإنما أوجب إطعامهن وكسوتهن بالمعروف، وإيجاب التمليك مما لم يدل عليه كتاب ولا سنة، ولا إجماع.
وكذلك فرض النفقة وتقديرها بدراهم، لا أصل له من كتاب، ولا سنة، ولا قول صحابى ولا تابعى، ولا أحد من الأئمة الأربعة.
فإن الناس لهم قولان، منهم من يرى تقديرها بالحب كالشافعى، ومنهم من يردها إلى العرف، وهم الجمهور، ولا يعرف عن أحد من السلف والأئمة تقديرها بالدراهم البتّة.
ثم أن فيه إيجاب المعاوضة على الواجب لها بغير رضا الزوج، ومن غير اعتبار كون الدراهم قيمة الواجب لها من الحب، أو الواجب بالعرف، ففرض الدراهم مخالف لهذا وهذا، ولأقوال جميع السلف والأئمة، وفيه من الفساد ما لا يحصيه إلا الله. فإنه إن مكن المرأة تخرج كل وقت تشترى لها طعامًا وإداما دخل على الزوج والزوجة من الشر والفساد ما يشهد به العيان، وإن منعها من الخروج أضر بها وبالزوج، وجعله كالأجير والأسير معها.
وبالجملة: فمبنى الحكم في الدعاوى على غلبة الظن المستفاد من براءة الأصل تارة ومن الإقرار تارة، ومن البينة تارة، ومن النكول مع يمين الطالب المردودة. أو بدونها وهذا كله مما يبين الحق ظاهرًا فهو بينة، وتخصيص البينة بالشهود عرف خاص، وإلا فالبينة اسم لما يبين الحق. فمن كان ظن الصدق من جانبه أقوى كان بالحكم أولى ولهذا قدمنا جانب المدعى عليه، حيث لا بينة ولا إقرار، ولا نكول، ولا شاهد حال استنادا إلى الظن المستفاد من البراءة الأصلية. فإذا كان في جانب المدعى بينة شرعية قدم، لقوة الظن في جانبه بالبينة.
وكذلك إذا كان في جانبه قرينة ظاهرةٌ، كاللوث قدم جانبه.
ولذلك قدم جانبه في اللعان، إذا نكلت المرأة، فإنها ترجم بأيمانه. لقوة الظن في جانبه بإقدامه على اللعان، مع نكول المرأة عن دفع الحد والعار عنها باليمين.
وقد أجمع الناس على جواز وطء المرأة التي تزف إلى الزوج ليلة العُرْس، وإن لم يكن رآها، ولا وُصفَتْ له، من غير اشتراط شاهدى عدل يشهدان أنها هي امرأته التي وقع عليها العقد، اكتفاء بالظن الغالب، بالقطع المستفاد من شاهد الحال.
وكذلك يجوز الأكل من الهدْى المنحور إذا كان بالفلاة، ولا أحد عنده، اكتفاء بشاهدِ الحال.
وكذلك دَرَجَ السلفُ والخلف على جوازِ أكل الفقير مما يدفعه إليه الصبى ويخرجه من البيت: من كِسرةٍ ونحوها، اعتمادًا على شاهدِ الحال.
وكذلك يُكتفَى بشاهدِ الحال في بيع المحقَّرات بالمعاطاة. وهو عمل الأمة قديمًا وحديثا.
واكتفى الشارع بسكوت البكر في الاستئذان، وجعله دليلًا على رضاها، اكتفاء بشاهد الحال.
واكتفت الأمة في الاعتماد على المعاملات، والهدايا، والتبرعات، بكونها بيد الباذل، لأن دلالتها على ملكه تورث ظنا ظاهرًا.
واكتفتْ بمعاملة مجهول الحرية والرشد، وإقراره، وأكل طعامه، وقبول هديته وإباحة الدخول إلى منزله، اعتمادًا على شاهد الحال والظن الغالب.
واكتفى الشارعُ بقول الخارص. الواحد في محل الظن، والخرْصِ، نظرًا إلى الظن المستفاد من خرصه.
واكتفت الأمة بقول المقومين فيما دق وجل، اعتمادا على الظن المستفاد من تقويمهم.
وقد اكتفى الشارع بتقويم اثنين في جزاء الصيد. واكتفى بواحد في الخرْص واكتفى بواحد في رؤية هلال رمضان.
واكتفت الأمة بقول القاسم وحده، أو بقول اثنين، وكذلك القائف، أو القائفين. واكتفت بقول المؤذن الواحد.
وقد اكتفى كثير من الفقهاء بانتساب الصغير، وميل طبعه إلى من ادعاه، من رجلين أو أكثر، اعتمادا على الظن المستفاد من ميل طبعه، وهو من أضعف الظنون، ولذلك كان في آخر رتب الإلحاق عندهم، عند عدم القائف.
وكذلك الاعتماد في وجوب دفع اللقطة، أو جوازه، على الظن المستفاد من وصف الواصف لها.
وكذلك الاعتماد على أمارات الطهارة، والنجاسة. والقبلة، والاعتماد على قول الكيال والوزان.
وقال كثير من الفقهاء: يحبس المدعى عليه بشهادة المستورين، إلا أن يعدلا، إذ الغالب من المستورين العدالة. فاستجازوا عقوبة الرجل المسلم يمثل هذا الظن.
وقالوا: تسمع الشهادة على المقر بالإقرار من غير اشتراط ذكر الشاهدين أهلية المقر حال إقراره، اعتمادًا على ظن الرشد والاختيار.
وقالوا: إذا كان الجدار حائلا بين الطريق وبين ملك المدعى، أو بين ملكه وبين موات، اختص به المدعى، لأن الظاهر أن الطريق والموات لا يحاط عليهما.
وقالوا: لو كان بين الملكين جدار متصل بأبنية أحد المالكين اتصالًا بدواخل وترصيف، اختص به صاحب الترصيف لقوة الظن من جانبه، إذ معه دلالتان، إحداهما: الاتصال. والثانية: التداخل والترصيف فلو تداخل من أحد طرفيه في ملك أحدهما، ومن الطرف الآخر في الملك الأخر اشتراكًا فيه: لتساويهما في الدلالتين.